الناسخ والمنسوخ في القرآن

الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

يُعد موضوع الناسخ والمنسوخ من أبرز الموضوعات العلمية التي أثارها علماء التفسير وأصول الفقه، نظراً لما له من تأثير جوهري في فهم آيات القرآن الكريم واستنباط الأحكام الشرعية منها. فالناسخ والمنسوخ يمثلان منهجًا إلهيًا في التشريع الإلهي المتدرج، حيث تتبدل بعض الأحكام الإلهية في بعض المراحل بحسب الحكمة الإلهية والمصلحة الشرعية. ومن هذا المنطلق، اعتنى العلماء بهذا العلم ضمن كتب التفسير والحديث والفقه والأصول، وبيّنوا فيه ضوابطه وأنواعه وأمثلته الكثيرة، مما جعله مكونًا أساسيًا من علوم القرآن.

تعريف النسخ لغة واصطلاحًا

النسخ لغةً: يُطلق على الإزالة والتبديل، ويُقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، كما يُطلق على النقل والكتابة، كقولهم: نسخت الكتاب، أي نقلته كما هو.

النسخ اصطلاحًا: هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، أو بتعبير أدق: بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي السابق، بإبداله بحكم آخر أو بإسقاطه دون بديل، تبعًا للحكمة الإلهية.

مشروعية النسخ في القرآن الكريم

أجمع جمهور العلماء على وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية، وهو ثابت في القرآن الكريم نفسه من خلال عدة آيات، منها قول الله تعالى:

﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106].

هذه الآية تقرر بوضوح إمكان النسخ في الشرائع الإسلامية، فالله يرفع بعض الأحكام ويبدلها بما هو أنسب للمرحلة الجديدة من التشريع، بما يتلاءم مع تطور الدعوة الإسلامية وتدرج التشريع.

الحكمة من النسخ

النسخ ليس تقلبًا أو تناقضًا – حاشا لله – وإنما هو مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والرحمة بالعباد. تتعدد حكم النسخ بحسب السياق، ويمكن إجمالها فيما يلي:

• التدرج في التشريع: كتحريم الخمر تدريجيًا من الكراهة إلى التحريم القطعي.

• مراعاة تغير الأحوال والوقائع: فبعض الأحكام نزلت في ظروف معينة، وعندما تغيرت تلك الظروف، جاء النسخ بحكم أنسب.

• الابتلاء والتمحيص: لاختبار طاعة المؤمنين واستجابتهم لأوامر الله ونواهيه.

• التيسير على الأمة: برفع حكم شاق واستبداله بحكم أيسر، أو العكس لتقوية العزيمة.

شروط النسخ

حدد العلماء جملة من الشروط التي لا يصح النسخ بدون تحققها، وأبرزها:

1. أن يكون الحكم المنسوخ شرعيًا: أي أن النسخ لا يقع إلا على حكم شرعي مصدره الوحي، سواء أكان قرآنيًا أو نبويًا.

2. أن يكون الناسخ حكمًا شرعيًا كذلك: لا يصح نسخ الحكم الشرعي إلا بوحي، فلا يصح بالعقل أو الاجتهاد.

3. أن يكون الناسخ متأخرًا زمنيًا عن المنسوخ: فالتقدم الزمني من الشروط الحاسمة في تحديد النسخ.

4. أن لا يكون الحكم المنسوخ مؤقتًا بزمن: لأن انتهاء الزمن في الأحكام المؤقتة لا يُعد نسخًا.

أقسام النسخ

قسم العلماء النسخ في القرآن إلى عدة أنواع بحسب متعلقه، ويمكن إجمالها في ثلاثة أقسام رئيسية:

1. نسخ الحكم دون التلاوة

وهو أكثر أنواع النسخ وقوعًا، حيث يُنسخ حكم الآية وتبقى تلاوتها في المصحف، مثل قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ [المائدة: 105]، فظاهرها يُفهم منه عدم وجوب الأمر بالمعروف، لكن الحكم نُسخ بآيات أخرى تأمر بالنهي عن المنكر.

2. نسخ التلاوة دون الحكم

وفيه تُنسخ الآية لفظًا من المصحف، لكن يبقى حكمها معمولًا به، ومن أشهر الأمثلة ما رُوي عن آية الرجم:

“الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة” – فقد رُفع نصها وبقي حكمها معمولاً به عند جمهور العلماء.

3. نسخ التلاوة والحكم معًا

وهذا النوع من النسخ يُعد من أندر الأنواع، وفيه يُرفع اللفظ والحكم معًا من القرآن، كآية “رضاعة الكبير” التي رُفعت لفظًا وحكمًا بحسب بعض الروايات الصحيحة.

أمثلة مشهورة على الناسخ والمنسوخ في القرآن

عدد الآيات المنسوخة

اختلف العلماء في عدد الآيات المنسوخة، بسبب اختلافهم في تطبيق ضوابط النسخ. فمنهم من بالغ، فعدّ أكثر من 200 آية منسوخة، ومنهم من بالغ في تقليلها، كالإمام الشاطبي الذي لم يثبت النسخ إلا في آيات قليلة جدًا. وقد رجّح المحققون المعاصرون أن عدد الآيات المنسوخة المؤكد وقوع النسخ فيها لا يتجاوز بضع عشرة آية، وأن كثيرًا مما يُعد نسخًا هو من باب التخصيص أو التقييد أو بيان المجمل، وليس من النسخ الاصطلاحي الحقيقي.

الفرق بين النسخ والتخصيص

يُخلط أحيانًا بين النسخ والتخصيص، رغم أن لكلٍ منهما مفهومًا مستقلاً. ويمكن توضيح الفرق بينهما كما يلي:

• النسخ: يرفع الحكم السابق بالكامل، سواء أُبدل بحكم جديد أو لا.

• التخصيص: يُقيّد الحكم العام بفئة معينة، لكنه لا يُزيل الحكم الأصلي وإنما يُحد من نطاق تطبيقه.

مثال: قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ عام، وقول النبي ﷺ: “ادرؤوا الحدود بالشبهات” لا ينسخ الحكم، بل يُخصصه في حال وجود شبهة.

موقف المستشرقين والطاعنين في النسخ

حاول بعض المستشرقين وأعداء الإسلام إثارة الشبهات حول موضوع النسخ، زاعمين أن وقوعه يدل على اضطراب في القرآن وتناقض في التشريع، وهذا طعن باطل من أساسه. فالنسخ في الشرائع السماوية قائم حتى في الأديان السابقة، وقد نصت عليه التوراة والإنجيل، كما أن النسخ لا يناقض الكمال، بل هو مظهر من مظاهر الرحمة والعدل والتدرج في التكليف، إذ تتغير الأحوال والظروف وتقتضي أحكامًا مختلفة. وقد تصدى العلماء لهذه الشبهات تفصيلًا في كتب العقيدة وعلوم القرآن.

موقف العلماء من النسخ

تنوعت مواقف العلماء بين موسعين ومقللين في النسخ:

• الكوفيون: توسعوا في النسخ وعدّوا مئات الآيات.

• البصريون: أكثر دقة وتحقيقًا، فرّقوا بين النسخ والتخصيص، فقللوا من عدد الآيات المنسوخة.

• المعاصرون: مالوا إلى التحقيق النقدي، وحصروا النسخ الحقيقي في آيات معدودة.

أهمية علم النسخ في تفسير القرآن والفقه

يُعد علم النسخ من العلوم التي لا غنى عنها للمفسر والفقيه على حدٍ سواء، إذ يُعين على فهم سياق الآيات، وتمييز الأحكام الباقية من المنسوخة. فالاعتماد على آية منسوخة في الاستدلال الفقهي يؤدي إلى خلل في الفتوى والحكم. ولذلك قال الإمام الزهري: “من لم يعرف الناسخ والمنسوخ فهو هالك في الفقه”.

الجهود العلمية في علم النسخ

ألّف العلماء عددًا كبيرًا من المؤلفات في علم النسخ، منها:

• “الناسخ والمنسوخ” لابن حزم.

• “الناسخ والمنسوخ” لأبي جعفر النحاس.

• “الإتقان في علوم القرآن” للسيوطي – خصص فيه فصلاً كاملاً لهذا العلم.

• “مناهل العرفان” للزرقاني – ناقش فيه بشمولية قضايا النسخ وأثره.

خاتمة

علم الناسخ والمنسوخ ليس فقط من أركان علوم القرآن، بل هو علم يعكس تطور التشريع الإسلامي، وانسجامه مع الواقع الإنساني، ويُظهر عظمة المقاصد الشرعية القائمة على التدرج والرحمة والحكمة. فكل حكم جاء ناسخًا كان ضرورة مرحلية استوجبتها مصلحة الأمة. وإن إدراك هذا المفهوم يعمق الفهم الصحيح للقرآن الكريم، ويُجنب الوقوع في التأويل الفاسد أو الاجتهاد الخاطئ.

المصادر:

1. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار المعرفة.

2. السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الفكر.